تهدف زاوية (شخصية الشهر) إلى إلقاء الضوء على أحد أعلام العربية في الوطن العربي، سواء أكان ذلك بالحوار أم بالكتابة عنه؛ وذلك بهدف إبراز الوجه التنويري والتثقيفي لهؤلاء العلماء، وتقريب مؤلفاتهم للمثقف العربي، وهذا غيض من فيض نحو حق هؤلاء العلماء علينا.
6-الأستاذ الدكتور محمد السيد الجليند
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة
– العلم هو وسيلة بناء الحضارات وازدهارها، وهو نفسه قد يكون سببًا في انهيارها وإبادتها.
– غياب الإيمان والاعتقاد الصحيح يترتب عليه سيادة قيم ومبادئ اجتماعية وأخلاقية تجسد الجوانب الدنيا في الطبيعة البشرية.
– الإسلام ما لم يكن مؤثرًا في حياة المسلم فهو إسلام ميت لا تفارق آثارُه جدران المساجد.
– الخطاب الديني المتشدد لا نجد له تأثيرًا إلا عند بعض المنتمين مذهبيًّا لفكر الفرق الإسلامية، كالخوارج والشيعة.
– العلم الكوني هو مفتاح نهضة الأمم، شئنا أم أبينا. وقد أمرنا القرآن الكريم بذلك، ونبَّه إليه الشرع الحنيف.
كل هذا وغيره كثير… فإلى تفاصيل الحوار:
* بداية نود التعرف على سيادتكم عن قرب.
– اسمي محمد السيد الجليند، من مواليد مركز المحلة الكبرى بقرية منشية الأمراء. حفظت القرآن الكريم في كُتّاب القرية، وأتممته في العاشرة، والتحقت بالمعهد الأزهري في مدينة سمنود، حيث حصلت على الشهادة الابتدائية، ثم تأسس معهد المحلة الكبرى، وكنا من أوائل الدفعات التي تخرجت فيه؛ حيث حصلت على الثانوية الأزهرية (نظام الخمس سنوات)، ثم التحقت بدار العلوم، وتخرجت فيها عام 1967م، ثم حصلت على الماجستير عام 1971م، وكان موضوع الرسالة هو “الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل”، وكانت لجنة المناقشة مكونة من الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور رئيس مجمع اللغة العربية الأسبق، والأستاذ الدكتور يحيى هويدي، بإشراف عميد دار العلوم آنذاك الأستاذ الدكتور محمود قاسم ( رحمهم الله جميعًا)، ثم سجلت الدكتوراه، وكان موضوعها عن ” قضية الخير والشر في الفكر الإسلامي- المعتزلة والأشاعرة نموذجًا” بإشراف الأستاذ الدكتور محمود قاسم أيضًا. وشاءت إرادة الله تعالى أن يختار إلى جواره في هذه المرحلة الدكتور محمود قاسم ليتولى الإشراف بعده المرحوم الدكتور محمد كمال جعفر، وكانت لجنة المناقشة تتكون من شيخ الأزهر وقتئذ الدكتور محمد بيصار، ورئيس قسم الفلسفة في جامعة الإسكندرية عام 1975م، ثم تدرجت في العمل الأكاديمي في الكلية معيدًا فمدرسًا مساعدًا فمدرسًا فأستاذًا مساعدًا فأستاذًا، وشرفت برئاسة القسم سنة 1987م، ثم مرة ثانية في التسعينيات من أواخر القرن العشرين، كما أشارك كعضو في لجنة الفكر في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وأنا عضو مجلس إدارة الجمعية الفلسفية المصرية، وأمين عام اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في الجامعات المصرية (لجنة الفلسفة)، وعضو محكّم في جائزة آل ثاني العالمية، وعضو في أمانة الجائزة الدولية لوزارة الأوقاف بقطر، وعضو لجنة المؤتمرات في رابطة العالم الإسلامي.
*حدثنا عن جديد أنشطتك في الكتابة والتأليف وفي المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
– وفقني الله لإخراج بعض الأعمال العلمية التي أسأل الله أن ينتفع بها شباب المثقفين، وأهمها “سلسلة تصحيح المفاهيم” التي صدر منها إلى الآن عشرة أعداد، ونستعين بالله لإكمال ما يرد على الخاطر من قضايا تحتاج إلى تصحيح مفهومها عند الشباب، ومن أهمها القضية التي أنا مشغول بها الآن وهي “مفهوم السياسة الشرعية بين الدولة الدينية والدولة المدنية” ونستعين بالله على إكمالها، بالإضافة لتحقيق ” كتاب الانتصار” في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لابن عبد الهادي، وهو أوفى ترجمة لشيخ الإسلام ابن تيمية. ومن أبرز مؤلفاتي: في نظرية المنطق بين فلاسفة الإسلام واليونان، ومن قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة، ودقائق التفسير، والجامع لتفسير شيخ الإسلام ابن تيمية، والإشارة إلى مذهب أهل الحق للشيرازي (تحقيق) ستة أجزاء، ومن قضايا الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب واستلاب الهوية.
* الإيمان هو السبب الفاعل في تأسيس الحضارات وازدهارها، فغياب الإيمان أو محاربته – ومصادمته هو أيضًا السبب الفاعل في انهيار الحضارات وانحطاطها؛ إلى أي مدى تتفق أو تختلف مع هذه العبارة؟
– بالفعل غياب الإيمان والاعتقاد الصحيح يترتب عليه سيادة قيم ومبادئ اجتماعية وأخلاقية تجسد الجوانب الدنيا في الطبيعة البشرية، فيسود منطق الأثرة والأنانية بدلاً من الإيثار والمحبة، ويحل الظلم ويغيب العدل، ويختفي كل معنى أخلاقي نبيل؛ ليسود منطق الغاب وسيادة الأقوى.
تأمل معي حال مجتمع يعيش أفرادُه تحت سيادة هذه المبادئ اللاأخلاقية، ثم ماذا يكون حال العلاقات بين الدول إذا أخذوا بهذا المنطق في علاقات الدول الكبرى بالدول الضَّعيفة؟ وهذا هو الواقع المعيش الآن، فإن الدول الضعيفة تكتوي بنار هذا المنطق المعكوس في تعامُل الدول الكبرى معها؛ حيث سطت هذه الدول على خيرات العالم الثالث سلبًا ونهبًا، وإذا وجدت من يقاومها، فإن القتل والتشريد يكون وسيلةَ الخلاص منه.
فلقد اغتر هؤلاء بما عندهم من العلم، كما يغتر أبناء عصرنا بما عندهم من العلم، ونسوا أن العلم هو وسيلة بناء الحضارات وازدهارها، وأنه هو نفسه قد يكون سببًا في انهيارها وإبادتها، ومن هنا جاء الأمر الإلهي بالقراءة المقرونة باسم الرب الخالق، وليس بالقراءة المبتورة عن الخالق؛ قال الله – تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، فقراءة الكون واكتشاف أسراره وقوانينه يجب أن تكون في أحضان الإيمان بالرب الخالق، حتى إذا ما أحسن الإنسان قراءة الكون، وتعرف على قوانينه، فإنه يوظف هذه القوانين العلمية توظيفًا إيمانيًّا يسعد بها الإنسان ولا يشقى، فيكون العلم مصدر أمن وأمان للإنسان، وليس مصدر خوف وشقاء.
* يُثار حول قضية التُّراث كثيرٌ من الآراء، وكُتب عنها الكثيرٌ من المقالات، ولا شكَّ أن ذلك يعطينا دليلاً قويًّا على أهمية هذه القضية وخطورة الحديث عنها، خاصة إذا علمنا أن تشكيل الثقافة العربية المعاصرة بالشكل الإسلاميِّ الجاد، والعربي الأصيل يتوقَّف إلى حدٍّ كبير على إحياء التراث والحفاظ عليه. فما رأيكم في ذلك؟
– انطلاقًا من هذا الإحساس، وجَدْنا أصحاب الاتجاهات المختلفة، والانتماءات السياسية الملوَّثة، يحاولون إبعاد هذه القضية تمامًا عن حاضرنا؛ لِما في إحيائها من خطورةٍ عليهم في ضياعِ وَجاهتِهم، أو مركزهم الاجتماعي، واستطاعوا – بما لهم من “دبلوماسية” في ترصيع الألفاظ، وانتقاء الكلمات التي تمتاز بوَقْعها وجرسها في أذن الشَّباب- أن يتسلَّقوا إلى بعض أجهزة الإعلام، سواء منها المقروء أو المسموع، ويوهموا الشباب أنَّ حاضرنا المنتكس لا سبيل لنا إلى إصلاحه والنهوض به إلاَّ إذا نفضنا أيدينا من الماضي المتَّهم، وأغمضنا أعيُنَنا عن قيود ومفاهيم التُّراث الذي كبَّل الأجيال بسلاسل حديديَّة أعجزَتْهم عن التقدُّم.
وهذه النغمة ليست جديدةً على آذاننا، ولكن الخطر الجديد الكامن وراءها أنَّ أصحاب هذه الدعوى قد خلا لهم المسرح الإعلامي في فترةٍ من تاريخ هذه الأمة، حاولوا خلالها أن يُغْروا شباب هذا الجيل بما في الحضارة الأوربيَّة من مظاهر التقدُّم، وما واكب ذلك من وسائل الرفاهية، وسيادة العالَم الثالث مادِّيًّا وعلميًّا، وأوهموا الشباب أن هذه الحضارة الأوربية لم تَقُم إلا بعد الانسلاخ من الماضي تمامًا، وأن سبب تأخرنا يرجع أساسًا إلى تمسُّكِنا بذلك الماضي وتقاليده.
ولا شكَّ أن شبابنا قد عاش فترةً طويلة من الزمن فيما يشبه الفراغ الثقافيَّ والديني، استطاع أصحابُ الانتماءات المذهبيَّة والفكرية خلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا أن يوسعوا الهوَّة بين شبابنا وبين ماضيه، وأن يقطعوا الصِّلة بينه وبين تراثه، وصوَّروا التراث الإسلامي على أنه مجموعةٌ من القيود التي كبَّلت ماضِيَنا وعاقته عن التقدُّم، وأصبحَتْ أيُّ دعوة لإحياء هذا التراث تعتبر ردَّة فكرية، أو هي دعوة إلى التحجُّر والجمود، ولم يكن هناك مَن يحاول أن يأخذ بيد الشباب ليفتح عقله وفكره على الحقائق عاريةً من لون المناسبة أو الزمان والمكان، وإذا كان هناك مَن يحاول ذلك فإنَّ محاولته كانت لا بدَّ أن تُجهَض قبل تنفيذها بأيِّ وسيلة، سواء كانت وسيلةً مشروعة أو غير مشروعة، إنسانيَّة أم تتنافى مع أبسط قواعد الإنسانية، وكانت نتيجة طبيعية لكلِّ ذلك أن يشغل الشبابُ نفسه بما يُمْلَى عليه من ثقافاتٍ وآراء، ويعتنق ما يُطرح عليه من مذاهب وأفكار، ظاهرها الرَّحمة، وباطنها الفسادُ والتحلُّل من كلِّ قيمة اجتماعية أو خلقية أو دينيَّة.
* لماذا يؤثر الخطاب الديني المتشدد في فئات متعددة، بينما لا نجد تأثيرًا مثيلا للخطاب الوسطي المعتدل؟
– ربما أخالفك في هذا المعنى؛ لأن الخطاب الديني المتشدد لا نجد له تأثيرًا إلا عند بعض المنتمين مذهبيًّا لفكر الفرق الإسلامية، كالخوارج والشيعة، وبعض المنتمين إلى السلف الذين يقرأون النصوص ويكتفون بحفظ ألفاظها دون أن يتدرجوا إلى فقه النص وفهم روح النص (المقصد الشرعي من النص). والفارق بين القراءتين القراءة المتشددة والقراءة الوسطية، هو الفرق بين القراءة الحرفية الظاهرية للنص والقراءة المقاصدية للنص، وربما يكون هناك نوع من التحفظ على كلمة الخطاب المتطرف؛ لأن شيوع هذا المصطلح على ألسنة الكثيرين وفي أجهزة الإعلام قد ضيَّع معنى المصطلح، وأصبح يُطلق على كل ملتزم أنه متطرف، فالذي يتكلم عن الحجاب يُعد في نظر البعض متطرفًا، وكذلك من يتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُعد في نظر البعض متطرفًا، وهكذا تاهت معالم المصطلح.
ومن المهم أن نعلم أن التطرف علة في الدين وآفة في التدين، وقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه في أكثر من حديث حيث قال: (يسِّروا ولا تعسِّروا)، (بشِّروا ولا تنفِّروا)، (وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا)، وأخذ أصحابه رضي الله عنهم بهذا المنهج في التيسير. أما الغلو والتطرف فهذا أمر مَن التزم به يجب عليه ألا يُلزم الآخرين به، وقد كتبت في ذلك كتابًا مستقلاًّ بعنوان” الأصولية والحوار مع الآخر” بينت فيه الفرق بين الالتزام كمفهوم شرعي والتطرف كفهم شخصي لبعض القضايا الفرعية، وبينت أن ذلك يتنافى مع روح الإسلام وأصوله قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: 78، وهذا مبدأ أصولي يمثل قانونًا عامًّا تجسد في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185، ومن شدَد شدَد الله عليه.
* ما أهم العقبات التي تواجه الخطاب الإسلامي الوسطي؟ وكيف يمكننا التغلب عليها ليكون هذا الخطاب الوسطي الأكثر حضورًا وتأثيرًا؟
– نعم هناك عقبات، يتمثل أولها في المتحدثين عن الإسلام، وأشير هنا إلى بعض القضايا التي يلاحظها الجميع، مثل عدم فهم الواقع الذي يتحدث فيه الداعية أو الخطيب، فتجد في بيئات ثقافية عالية المستوى مَنْ يتحدث عن أمور لا تتصل بهم من قريب ولا من بعيد، والعكس صحيح، تجد البيئات الأمية ثقافيًّا ودينيًّا تسمع فيها مَنْ يخاطبهم بلسان لا يفهمونه لا من قريب ولا من بعيد، ومن القواعد التي ينبغي أن تُراعى في هذا الشأن أن لكل مقام مقالاً، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم، هذه واحدة، وهناك أخرى وهي الأهم، أن الدعاة- خاصة خطباء المساجد- قد فضَّلوا أن يختزلوا الإسلام في ممارسة الشعائر الدينية في داخل المسجد، ونسوا أن الإسلام ما لم يكن مؤثرًا في حياة المسلم؛ في الشارع والمتجر والمصنع والمؤسسات التعليمية والجامعات فهو إسلام ميت لا تفارق آثارُه جدران المساجد، وهذه جناية الدعاة على الإسلام.
وأرى أن هناك قضية كبرى أوجه إليها الخطباء والمشتغلين بالدعوة: وهي الخروج بالإسلام من دائرة العبادات والشعائر إلى النظرة الشمولية التي تجعل العالم الكيميائي والطبيب والجراح والمهندس وعالم النبات وعالم الفلك، وهم يمارسون بحوثهم العلمية تجعلهم في عبادة لله لا تقل أهمية ولا تقربًا إلى الله مِن الواقف في محراب المسجد؛ فتلك عباده قولية في داخل المسجد، وهذه عبادة عقلية علمية تربوية نهضوية تقود الأمة إلى الأمام حتى تعيش الأمة ثقافة (إتقان العمل) فهذه عبادة منسية، إن لم تكن مجهولة دعانا إليها الـقـرآن، ونبهنا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن خطباء المساجد حين يقرأون قولـه تعـالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: 43 يستدلون بها على وجوب الصلاة ووجوب الزكاة، وحين يقرأون قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يونس: 101، وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} العنكبوت: 20، وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الغاشية: 17؛ فلماذا لا يستدلون بها على وجوب إعمال العقل في الكون وما فيه؛ لاستظهار قوانينه تحقيقًا لمبدأ التسخير الإلهي للكون الذي لا يتم إلا باكتشاف هذه القوانين العلمية.
إن إعراض الخطباء عن إحياء هذا الواجب الديني والفريضة الشرعية قد صرف عقول العلماء عن الاشتغال بها لعبادة لله واقتصروا في ممارستها على أنها وظيفة دنيوية لأكل العيش، فما نصروا بها دينًا، ولا عمَّروا بها دنيا. وهذا أخطر ما أصاب الخطاب الديني من خلل في عصرنا الحاضر، وما لم يتنبه له المهتمون بقضايا الأمة ثقافيًّا وتربويًّا فلا أمل في أية نهضة يتحدثون عنها؛ لأن العلم الكوني هو مفتاح نهضة الأمم، شئنا أم أبينا. وقد أمرنا القرآن الكريم بذلك، ونبَّه إليه الشرع الحنيف.
مصطفى يوسف: مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية